من الطريف في عالم الحشرات ما يشاهد من ميل بعض أنواع الخنافس إلى قضاء وقت الشتاء؛ حيث البرد القارس على قمم الجبال، فبمجرد أن تحس ببرودة الجو، وأن تباشير الشتاء قد أقبلت فإنها تهرول إلى قمم الجبال، وكأنها بهذا تنادي بني جنسها قائلة: "من يسبح معي ضد التيار".
ومعلوم أن قمم الجبال والأماكن المرتفعة في البلاد الأوروبية تكون شديدة البرودة إلى حد أن تكتسي بالثلوج؛ فتنخفض درجات حرارتها إلى نحو 30م تحت الصفر، ولا شك أن هذه الحشرات ستصادف هذه الظروف القاسية؛ فهي - وإن كانت أجسامها ممتلئة بكميات من الدهن - تستطيع الاعتماد عليها خلال فترة بيات وصيام تستغرق فصل الشتاء، غير أن هذه البرودة لا بد أن تؤثر فيها، وتجعلها بحاجة أخرى إلى كمية من الوقود الذي يمدها بالدفء، وبخاصة في أواخر الشتاء؛ حيث يكون مخزونها الغذائي قد أوشك على النضوب وإحساسها بالبرودة يصبح شيئًا ملموسًا؛ فماذا تفعل هذه الحشرات التي لم يَحِن بعد وقت إفطارها؟ هل تستسلم لتلك الظروف، أم أن الله سبحانه قدر لها وسيلة مناسبة تخرج بها من هذا المأزق الحرج؟
نعم، إن الله (سبحانه وتعالى) الذي وصف صنعته بالحُسن، ووصفها بدقة التدبير وإحكام التقدير – قد أعطى كل مخلوق من الوسائل ما يجعله يشق طريق حياته على نحو مُرضٍ؛ فلم تشأ عناية الله أن تتخلى عن هذه الحشرات. كما لم تتخلَّ عن غيرها؛ حيث تتم بداخل أجسامها عملية هامة إبان نزوحها إلى قمم الجبال، ألا وهي أنها تأكل في هذه الفترة بشراهة، وتخزِّن الكميات الزائدة عن احتياجاتها على هيئة دهون.
وفي نفس الوقت فإنها تمتنع عن شرب الماء فتقل نسبة الماء في أجسامها، ويتحول الماء الحر الذي كان موجودًا بسوائل أجسامها إلى نوع آخر من المياه، وهو الماء المرتبط، وهو عبارة عن نوع من المياه التي تذوب فيها بعض المكونات الغذائية وتجعلها كثيفة القوام؛ ولهذه الصورة من المياه فائدة هامة، ألا وهي إكساب هذه الحشرات القدرة على تحمُّل درجات الحرارة المنخفضة؛ فلا تتجمد المياه بداخل أجسامها عندما تنخفض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر المئوي.
وإذا حدث ما لا تحمد عقباه من انخفاض درجة الحرارة إلى حدود ليس في مقدورها تَحمُّلها فإننا نجد رحمة الله بهذه المخلوقات تكسبها خاصية أخرى على درجة كبيرة من الأهمية؛ حيث يكون في مقدور هذه الحشرات أن تحصل على طاقة حرارية مذهلة؛ وهو ما بداخل أجسامها من الماء، ومعلوم أن هذه الحرارة هي الحرارة الكامنة للماء، فإذا ما انخفضت درجة حرارة الوسط المحيط إلى 30م تحت الصفر المئوي، فإن هذه الحشرات تقوم بتحرير طاقة الماء فترتفع درجة حرارة أجسامها إلى الصفر المئوي، أي ترتفع 30م، ولا تتكرر هذه العملية إلا مرة واحدة، وتكفي هذه الحشرات لإتمام صومها في ذلك المنتجعات الشتوية فتبارك الله القائل: (إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ).