مواقف عمر رضي الله عنه للحد من خطر تلك المجاعةلقد اتخذ عمر رضي الله عنه العديد من التدبيرات الحازمة، ووقف مواقف كريمة نبيلة، لم يستطعها أحد ممن جاء بعده، فقد صدق علي رضي الله عنه عندما قال له: "لقد أتعبتَ من بعدك"، يعني من الأئمة العدول، أمثال عثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، ومن شاكلهم، أما غيرهم من الحكام كثير فكأن الأمر بإقامة العدل لم يعنهم، وكأنهم غير مخاطبين بنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته"6 الحديث.
وقوله: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة"7.
وقوله: "من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة"8.
وبوصفه صلى الله عليه وسلم للإمارة بأنها: "أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها".9
مواقف عمر المشهودة، وقراراته الحازمة، وتصرفاته الحكيمة، التي كان لها الفضل بعد الله عز وجل في أن تمر هذه المجاعة، على الرغم من شدتها وقسوتها، من غير أن تخلف قتلى وخسائر في الأرواح، التي أصَّل فيها عمر للعمل الغوثي، كثيرة جداً، وسنشير إلى أهم تلك المواقف، وإلا فحياة عمر بعد إسلامه وخلافته كلها مواقف مشرِّفة، ولحظات مضيئة، وصفحات بيضاء ناصعة، وأيادٍ كريمة على إخوانه المسلمين.
بداية الصفحةأولاً: الدعاء، والتضرع، والابتهالأول تلك المواقف، وأهم تلك التدبيرات، تضرعه إلى الله عز وجل، وابتهاله له، واستغاثته به وحده، لعلمه ويقينه أنه هو مسبب الأسباب، وكاشف الكرب، وميسر ومذلل الصعاب، ليرفع هذا البلاء، ويزيل تلك الضراء، ويغيث العباد والبلاد.
البلاء والمصائب التي تحل بالعباد والبلاد قد تكون بسبب ما اقترفته الأيدي: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"10، "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ"11، والغرض تطهيرهم وتكفير سيئاتكم.
وقد يكون نزول البلاء لرفع الدرجات، ولنيل المقامات في دار الكرامات، كحال عمر هذه.
والجميع ليس لها من دون الله كاشف ولا مزيل ولا رافع.
والعاقل لا يبرئ نفسه، ويمنيها، ويزكيها، بل يتهمها ويلومها: "وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ"12، وهكذا كان حال عمر رضي الله عنه.
· خرج ابن سعد في طبقاته13 من خبر سليمان بن يسار قال: "خطب عمر بن الخطاب الناس في زمن الرمادة، فقال: أيها الناس اتقوا الله في أنفسكم، وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السخطى عليَّ دونكم، أوعليكم دوني، أوقد عمتني وعمتكم، فهلموا فندع الله يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا المحل.
قال: فرئي عمر يومئذ رافعاً يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس ملياً، ثم نزل".
· وأخرج أيضاً ابن سعد14 من خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كان عمر بن الخطاب أحدث في عام الرمادة أمراً ما كان يفعله، لقد كان يصلي بالناس العشاء، ثم يخرج حتى يدخل بيته، فلا يزال يصلي حتى يكون آخر الليل، ثم يخرج فيأتي الأنقاب، فيطوف عليها، وإني لأسمعه ليلة في السحر وهو يقول: اللهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي".
بداية الصفحةثانياً: استسقاؤه عدة مراتالسُّنة إذا قحطت البلاد وأجدبت أن يفزع الإمام ورعيته إلى صلاة الاستسقاء التي شرعها لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسار على طريقه خلفاؤه من بعده.
فها هو عمر رضي الله عنه استسقى لقومه عدة مرات، ولم يياس من تكراره وإعادته إلى أن كشف الله عنهم تلك الغمة.
· خرج عمر مرة يستسقي، فنادى في الناس فأوجز، ثم صلى ركعتين فأوجز، ثم قال: "اللهم عجزت عنا أنصارنا، وعجز عنا حولنا وقوتنا، وعجزت عنا أنفسنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اسقنا وأحيي العباد والبلاد".
· وعن خوات بن جبير قال: "خرج عمر يستسقي بهم فصلى ركعتين فقال15: اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك؛ فما برح من مكانه حتى مطروا، فقدم أعراب، فقالوا: يا أمير المؤمنين، بينا نحن في وادينا في ساعة كذا، إذ أظلتنا غمامة، فسمعنا منها صوتاً: أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص".
· روى ابن أبي الدنيا بسنده إلى الشعبي قال: "خرج عمر يستسقي بالناس، فما زاد على الاستغفار حتى رجع، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما نراك استسقيت! فقال: لقد طلبت المطر بمحاديج السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا"16.
ثم قرأ: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ"17.
· وروى الطبراني بسنده إلى أنس: "أن عمر خرج يستسقي، وخرج بالعباس معه يستسقي بقوله: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبينا توسلنا إليك بنبينا18 فتسقنا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا؛ قال: فيُسقون".
استسقاء عمر بالعباس رضي الله عنهما من أقوى الأدلة على عدم جواز الاستغاثة بذوات الأنبياء والصالحين ولا بجاههم، أحياء أوأمواتاً، إذ لو كان جائزاً لما عدل عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، أفضل وأكرم على الله من العباس رضي الله عنه.
وعمر رضي الله عنه استسقى بدعاء العباس وليس بذاته وجاهه، لأن العباس قال في استسقائه: "اللهم ما نزل بلاء إلا بمصيبة، ولا رفع إلا بتوبة"، ثم دعا ودعا معه عمر ومن كان خرج معهما.
وهذا قسم من أقسام التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء الحي الحاضر، هذا بجانب التوسل بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى، وبالأعمال الصالحة، وما سواها شرك أكبر صرف، ولهذا وجب التنبيه عليه.
وكذلك حديث الأعمى هو من هذا القسم المشروع، لأنه توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم.
بداية الصفحةثالثاً: اعتماده بعد الله على موارد بيت المال وما عند أهل المدينةمن المواقف الكريمة والتدبيرات الحازمة الحكيمة اعتماد عمر رضي الله عنه في أول الأمر على موارد بيت المال، وعلى ما جادت به نفوس أهل المدينة من المهاجرين والأنصار الأطهار، حيث لم يلجأ إلى طلب الغوث من الأقاليم والأمصار إلا بعد أن نفذ كل ما بحوزته وما بحوزة أهل المدينة، فالاعتماد بعد الله على النفس وعلى الموارد المحلية من حسن التدبير، وسبب من أسباب النجاح الكبير الذي حققه عمر في هذه المحنة.
· قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو يؤرخ لعام الرمادة: "كان عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعاً شديداً.. وجفلت الأحياء19 إلى المدينة، ولم يبق عند أحد منهم زاد، فلجأوا إلى أمير المؤمنين، فأنفق فيهم من حواصل بيت المال، مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفذه".