يلاحظ أن حديث التيار العلماني عن التنوير يرتكز على عدة أمور يتكرر قولها، أهمها: أنه يجب تأويل النصوص القرآنية والنبوية حتى تتواءم مع الواقع والعصر الذي نعيش فيه، وأنه يجب إعادة النظر إلى ما يسمونه ( فقه القرون الوسطى)،والتي أدى إلى ( الانسداد التاريخي)، وأنه يجب الإفادة من التجربة الغربية في التعاطي مع الدين، كما حدث مع الثورة على اللاهوت المسيحي.
ونظر العدل يوجب على الإنسان أن يسلم بالحقائق التي يحتويها أي فكر، بل يفيد منها، ولكنه في ذات الوقت يجب أن يكون مدركا تماما مآلات الخطاب كله، كما يجب في ذات الوقت أن ينظر بعين النقد الفاحص الذي يميز خبيث الكلام من طيبه، حتى يتكون لديه صورة شاملة للحكم على هذا الكلام.
إشكالية الفقه القديم
أما بخصوص الفقه القديم، فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في التعاطي مع عدد من مفردات الفقه القديم، ولكن لا يعني هذا إلغاءه؛ لأن الفقه القديم وهو نتاج علماء أمتنا عبر قرون عديدة، وإن كان في تاريخ الحضارات تسعى كل أمة للحفاظ على حضارتها، فنحن نسعى إلى الحفاظ على فقهنا ونقدر ما بذله فقهاؤها وأن ننظر إليه دون تقديس أو تبخيس.
كما أنه من المهم أن ينتبه التيار العلماني إلى أن مادة الفقه منها ما هو ليس اجتهادا بشريا، ومنه ما هو اجتهاد بشري، وإن كان أهل الأصول يعرّفون الفقه بأنه معرفة الأحكام التي طريقها الاجتهاد، فإن تدوين الفقه ضم بين دفتيه ما ليس محلا للاجتهاد بجوار ما هو محل للاجتهاد، ومن هنا فإن اعتبار كل الفقه هو فقه القرون الوسطى نوع من المغالطة العلمية، أو عدم فقه لطبيعة الفقه، إننا ندرك أن كثيرا من اجتهادات علمائنا هي محل اجتهاد قابل للنقض والنقد، ولكن من أهله وفي محله، مع اعتبار اصطحاب أدوات الاجتهاد الناقد.
ويجب الانتباه إلى أن اجتهاد الفقهاء قديما كان كثير منه مرتبطا بزمانهم، ولا يعني ذلك التخلص منه كما هي دعوة الفكر العلماني، وإنما نفهمه حسب السياقات التاريخية والاجتماعية التي أنتجت هذا الفكر المبدع في وقته، وألا ننزله على واقعنا مادام مختلفا عن زماننا وبيئتنا وثقافتنا، والفقهاء قديما هم الذين علمونا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والإنسان، وليتنا تعلمنا وطبقنا ما أنتجوه من قواعد حاكمة للتفكير، وأنتجنا في عصورنا قواعد أخرى، بل أدعي أن الفكر الفقهي المعاصر لم يستطع أن يصل إلى منهجية الإبداع الفكري القديم، وإن لم نعدم إبداعا في الفروع والمسائل الجزئية فيما يقابل عصرنا من مستجدات.
إن الفقه القديم يجب ألا ينزل منزلة التقديس، ولكنه في ذات الوقت يجب ألا ينزل منزلة التبخيس، بل نتعامل معه إفادة منه، ونقدا له، وإحاطة بإشكالياته، وإدراكا لمنهجيته، وفهما لمراميه، فهو تراث أمتنا المبدع الذي نفتخر به كأمة لها تاريخ وثقافة وفكر وحضارة، ولكنه دون الوحي في التقدير.
قضية تأويل النصوص
أما قضية تأويل النصوص حتى تتماشى مع واقعنا، فقديما قال علماؤنا: إنه يجب على المجتهد أن يتحصل العلم بالنص مع العلم بالواقع، وأن من لم يجمع العلمين فليس بعالم، ولكن ليس كل النصوص قابلة للتأويل، فقد رأى العقل الفقهي أن من النصوص ما هو قطعي الثبوت والدلالة، ومنه ما هو ظني الثبوت و الدلالة، ومنه ما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة، ومنه ما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة، وتلك التقسيمات المنطقية هي نوع من الإبداع الفكري، فهل نؤول قوله تعالى ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم)، أم نؤول قول تعالى ( محمد رسول الله) وغيرها من الآيات التي لا تقبل التأويل ، فهناك من النصوص ما لا يقبل التأويل؛ لأن تأويل النص القطعي يوجب الفرقة والاختلاف، كما أنه تمييع للقضايا والأفكار، ولكن ما كان قابلا للتأويل يؤول؛ لما في ذلك من المصالح والمنافع..
ولعل هذا التقسيم المنطقي للنصوص لا يختص بنصوص الوحي وحدها، فكلام البشر يسير عليه تلك التقسيمات، ولسنا بصدد التصالح مع الغرب أو الحداثة حتى نؤول نصوص الوحي، لأننا لسنا أعداء للغرب بذاته ولا للحداثة بذاتها، وإنما نرفض ما يخالف ما هو مقطوع به في ديننا، أيا كانت جهته.
الغرب واللاهوت المسيحي
وكثيرا ما يستند الفكر العلماني إلى موقف الغرب من اللاهوت المسيحي، ومثل هذه المقارنة الظالمة لا تخفى على كل من عنده أدنى ثقافة بمقارنة الأديان، فلم يكن الإسلام يوما لاهوتيا، ولم يكن الدين يتحكم في مجريات السياسة ولا الحكام، بل إن العلماء في أوج مكانتهم كانوا مستشارين للحكام، وباستثناء عصر الخلفاء الراشدين وبعد أن أصبح الحكم وراثيا، لم يفكر فقيه واحد أو عالم واحد أن يكون رئيس دولة، بل رأينا علماءنا يهربون من السلطة ويرفضون القضاء، بل ويموتون ويعذبون لأجل أنهم رفضوا أن يكون لهم سلطة في الدولة، واكتفوا بكونهم مستشارين ناصحين للحكام.
وهذا أيضا ما جرى عليه العمل حتى العصر الحديث، فالبرغم من أن علماء الأزهر هم الذين كانوا ينصبون الحاكم عليهم ويرفعون للخليفة العثماني رغبتهم في تولية فلان، فإن أحدا منهم لم يفكر في أن يكون هو والي مصر، رغم أنه كان منهم من عمل بالسياسة، فمنهج اللاهوت المسيحي ممنوع عندنا في الإسلام ولا نقره ولا نعترف به، بل نرى أنه يتصادم مع السنن الكونية والإلهية، فكيف يلتصق بفكرنا الثقافي؟ مع استصحاب أنه لا يحرم عندنا أن يكون أحد العلماء أو المفكرين هو حاكم الدولة، مادام الشروط قد توافرت فيه، ولكن التطبيق العلمي والاستقراء التاريخي يقول: إن العلماء كانوا أبعد عن التفكير في الحكم.
ربما كان من حق الفكر العلماني أن ينشر فكره، وأن يبدي رأيه، وأن يظهر حجته، لكننا – ونحن بمركب واحد وتشغلنا هموم وطن واحد- بحاجة إلى أن ينظر كل فكر بنظر الآخر، وأن يرى محاسنه كما يرى مثالبه، وأن يكون ناصحا شفوقا، وألا يسارع الناس بالاتهام دون علم، فعظمة الإسلام تجمعنا، وأخلاقه توحدنا، وإن اختلفت الأفكار مادامت بعيدة عما هو مقطوع بصحته، متفق عليه، فربما كان مثل هذا المسلك مما يقرب أبناء الحضارة الواحدة، لتصنع مجدا وتاريخا متميزا لا يقصد إلى استنساخ النموذج الغربي، ولكنه يفيد منه، ويطرح منه ما لا يجدي معنا نفعا، أو لا يجد إلى حضارتنا سبيلا.