ومَن يكون على هذه الشاكلة، حتى لو استجاب
للحوار مع الغير تحت ضغط
الأجواء ومستجدّات الظروف فإنه:
1) يرفع صوته على الآخر ولا يعطيه فرصة لبيان رأيه.
2) يفكّر في هجومه ودفاعه أكثر من أن يفكّر في فهم كلام الطرف
الآخر.
3) يناقش ولكن لا لكي يصل إلى هدف يبني خيراً في الواقع بل لكي
يبرّئ نفسه من أي اتهام محتمل وأن يخرج منتصراً لقناعاته فقط ولو
بالمغالطات السوفسطائية.
4) يجهل الطرف الآخر ويكيل عليه التهم ويلصق به ما ليس له مِن واقع
أبداً.
5) يستغل كل مهاراته لتقزيم الآخر وإظهاره بمظهر الجاهل المتطفل على
العلم.
يعيش هذا الإنسان في بعض درجاته العدوانية عقلية المؤامرة ومهارة
سحب البساط وفنّ التسقيط للآخر حتى تصدق عليه صفة الإقصائيّة
والإيذائية والشرّية المطلقة، ويزداد فيها كلّما غابت الرقابة
المجتمعية وأَمِن العقاب القانوني العادل.
ويكشف لنا الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بكلمته "الناس أعداء ما
جهلوا"[17] كيف أن
هذا
الإنسان الإقصائيّ يستطيع أن يبحر في ذاته ويستمر في رفضه للآخر عن أية
شراكة عادلة وأن يدير ظهره لأي حوار تفاهميّ إذا ما استطاع إبقاء الناس
من حوله في ظلام الجهل ونجح في تشغيلهم بعداوات وهمية مع الآخر الذي
يظنّه مزاحماً لمرامه الذاتي حتى يفلت نفسه عن المحاسبة...
وإذا ما أردنا معرفة الطريق إلى الشراكة الشمولية وتأمين الحقوق
العادلة ومعرفة خطورة الإقصائية وجهل المصفّقين وطبايع الاستبداد على
ثقافة الحوار والقبول بالآخر وخطورتها أيضاً على أخلاقيات التعاون
وسلامة الوطن من الأمراض السياسية والفكرية والاجتماعية الفتّاكة..
فإنه لابدّ لنا من وعي الأبجديات المذكورة.
المحور الرابع: إسقاطات البحث على
الواقع المحلّي
لا يتردّد المنصفون في وصف واقعنا الفعلي في البحرين قياساً بالعقود
الماضية أنه واقع يمتاز بإيجابيات واسعة وإنْ كان دون الطموح أكيداً..
ويعود الفضل إلى إرادة الله ولطفه وكرمه ومِنَنِه السابغة أوّلاً
وأخيراً، ثم إلى جهود العلماء والشهداء والسجناء والمبعدين والقوى
الوطنية وصبر عوائلهم الطويل، وإلى القرار الشجاع للقيادة السياسية
التي قامت بتدشين مرحلة جديدة لتاريخ البحرين الحديث، مضافاً للتحوّلات
العالمية والإقليمية في المنطقة والمخطّطات الأمريكية لشرق أوسط جديد.
ولكنه واقعٌ لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الطموح الإصلاحي المجتمعي
بقرارٍ هنا ولقاءٍ وكلامٍ ومجاملات هناك، بل يفتقر إلى التصدّي الحقيقي
لكل أنواع الفايروسات وذلك بتزريق الواقع مضادّات حيوية متناسبة مع كل
مشكلة وحجمها، وأن يتعاضد المواطنون لتطعيم الحالة العامّة في البلاد
بكل مقوّمات (المحبّة) البينيّة المتبادلة.. وتثبيتها بدعائم (العدالة)
العمومية.. وترشيدها بمبادئ (العَقْلَنَة) والحكمة العملية...
وهنا أربع إشارات للتأمّل:
الإشارة -1/ الحالة العامّة
وإفرازاتها الخطيرة :
يجب أن نعلم جيّداً أنّ واقعنا المحلّي جزء من واقع عالمي متشابك
على جميع مستوياته.. فالدول العظمى والدول التابعة والدول المتمرّدة..
وما يفرزه الصراع العالمي من مشكلات اقتصادية وطبقيات فاحشة، وازدياد
الفقر والفساد وظهور حركات دموية وتحالفات على الضفّة الخلفية بقصد
الذات واللذّات، وما هنالك من مكر وخداع وإفرازات خطيرة على المستوى
النفسي والاكتئاب والقلق والخوف ومن أمراضٍ بدنية موجعة ومزمنة، كل ذلك
قد رَمَى الجميع على كفّ عفريت! وأفنى راحة الإنسان النفسية حتى في
بيته وبين أسرته التي غالباً ما تعيش الطلاق الروحي أو الحقيقي.
ولا شك أن هذا الواقع الضّنَك إنما حَلّ بالبشرية عموماً وبنا
محلّياً نتيجة الإعراض عن ذكر الله تعالى لصريح قوله: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾[18].
فقد ظهر الفساد في البرّ والبحر بأنواعه وأنماطه.. من الكذب
والخيانة والزنا والفسق والمجون والسرقة وعدم الوفاء بالعهد والعصبية
وشدّة الفتن وسفك الدماء وتقليب الموازين وتحريف الحقائق حتى أصبح
المنكر معروفاً والمعروف منكراً.. ذلك بما كسبتْ أيدي الناس.
الإشارة - 2/ بين السلطة
والمعارضة.. البحرين إلى أين؟
سؤال نطرحه على القيادة السياسية أوّلاً باعتبار موقعها من
المسئولية وما بيدها من قوّة السلطة وإمكانات الدولة. ونطرحه على
المعارضة ثانياً لتشابك القضايا!!
فنقول: البحرين أمانة بيد (الجميع) ولكن الحكومة بقراراتها
وقوانينها وسياساتها قادرة على أن تحافظ على هذه الأمانة أو أن تتلفها.
ولا أحد من (الجميع) يشك في وجود عناصر مجهولة أو مكشوفة في البلاد
تهدّد سلامة هذه الأمانة، والحكمة المرجوّة هنا أن لا تغيب عن القيادة
السياسية أهمّية تحديد الطريق الذي يصون الوطن والشعب والأموال العامّة
وأمانات الأجيال القادمة من أيّ خطر سواء من داخلها أو من خارجها. وهذا
ما لا يخفى وجوبه الشرعي والوطني على أحد لقول نبيّنا الكريم (صلى الله
عليه وآله): " كلّكم راعٍ وكلّكم مسئول عن رعيّته"[19].
وهنا عدّة آليات من شأنها أن تكفل إجراء هذه الحكمة وصناعة
المسئولية الشراكية، ويتصدّرها التغليب المستمر للغة الحوار الهادئ
ومدّ جسور اللقاءات والتواصل والمحادثة. ويتم هذا إذا ما جَعَلَ
(الجميع) لغة اللقاء والحوار أصلاً مَرِناً في حياته لأمن الأمانة
وسلامة الوطن، وإذا ما حَرَصَ (الجميع) أيضاً لتفعيله سواء بين مكوّنات
المجتمع البحريني نفسها أو بينها وبين صنّاع القرار الرسمي، لأن الحوار
والتواصل واللقاء المباشر يذيب جليد الحواجز النفسية من جهة، ويبيّن
للأطراف زوايا المواقف وأسبابها من جهة، وهما مقدّمتان أساسيتان
للتوافق والتنسيق من جهة ثالثة، وللتخفيف عن معاناة المواطنين الذين
قهرتْهم ضغوطات الحياة من جهة رابعة.. وقد دأبنا في لقاءاتنا مع
المعنييّن في النظام ولاسيّما مع جلالة الملك حسب المناسبات أن نلفت
انتباههم إلى ضرورة معالجة جذور المشاكل، وعَمِلنا قدر المستطاع لقضاء
حوائج الناس وتصحيح المعلومات التي تقرّب الحلول وتجنّب الساحة من أي
عنف محتمَل، وإنْ لم تُؤخَذ بآرائنا كلّها!
ولعلّ إيماننا بضرورة الحوار ومبدأ التواصل كان المبرّر الأهم
لدخولنا إلى المساحات الرسمية بعد مشاورات مع مرجعيتنا الفقهية
والأصدقاء وبعد يأسنا من جدوائية معارضةٍ اعتلتْها صفات كنّا ننتقدها
في السلطة!
فالمعارضة التي يجب أن تحاكي سلوكياتُها شعاراتِها ومبادئِها ما
بالها قد أصبحتْ على العكس غالباً، فلا تمارس الديمقراطية بين أطيافها،
ولا تستجوب رجال التأزيم لديها، ولا تحاكم المتسلّقين إلى قيادتها، ولا
تحاور مَن يختلف معها مِن أبنائها، ولا تتورّع عن تشويه سمعة المنافسين
في داخلها، بل تهمّشهم وتسقطهم بتُهَم مِن طرف واحد وغياب المتهَم، ولا
تسمح له أن يدافع عن نفسه في معاقلها ومناطق نفوذها، وتمارس التمييز
المرجعي الحادّ رفعاً لمن تشاء وكبساً لمن تشاء، ثم لا تقف إلا مع مَن
يكون ظهره سهل الركوب وضرعه رهن الحلوب!
بعض الرموز في واجهة المعارضة ينخرون في سفينتها بممارساتهم
الطائفية مع بني جلدتهم ومَن في صفّ المعاناة مثلهم.. وقد حوّلوا
المعارضة إلى قشور بلا مضمون فتشابهتْ بالحكومات التي تنادي بشيء
والحقيقة شيء آخر وهي لن تكون إلا مثلها لو حلّتْ مكانها!!
هذه الإشكالية الطافحة على السطح ولا يمكن التستّر عليها تدعو كل
غيور متألّم إلى مراجعة أساسية في ثقافة المعارضة ورجالها ومنهجها
وتقييم جميع مواقفها بغرض التقويم والإصلاح في بُنيتها ومفاصلها حتى
تؤدي رسالتها بالمستوى الإسلامي الحضاري اللائق والمناسب للمنعطفات
الجديدة، وإلا انطبق عليها الحديث المرويّ عن إمامنا عليّ الهادي (ع)
الذي قال: "إنّ الظالم الحالِم يكاد أنْ يُعفى على ظلمه بحلمه، وإنّ
المُحِق السفيه يكاد أنْ يُطفئ نور حقه بسفهه"[20].
ونقدنا الناصح هذا الموجَّه للمعارضة التي كنّا جزءً تأسيسياً منها
- منذ سنة 1977م إلى 2004م- !! يكتمل بنقدٍ ناصحٍ آخر لأجزاء في السلطة
ينقصها التعامل مع قضايا الشعب الواحد بروح الأبوّة ومبدأ الشفّافية
وميزان العدالة.. فمشكلة التمييز بين المواطنين التي تهدّد الوحدة
الوطنية إنما تعالجها الرعاية الأبويّة الشاملة.. ومشكلة الأسئلة التي
تؤرّق المواطنين يحسُن للجهة المعنيّة أن تجيب عليها بشفّافية، وأما
خيرات البلاد فتستغيث ميزان العدالة ساعةً بعد ساعة..
وعلى هذا السياق يجدر بكل وزير أن يخصّص في مبنى وزارته مكتباً
لاستلام شكاوى المتظلّمين الذين يلاقون سوء معاملة من مسئول هنا أو
موظف هناك بدافع الإهمال (مثلاً تضييع وقت المراجعين بقراءة الصحف وشرب
الشاي والضحك مع الزملاء) أو بدافع المذهبية (من خلال فحص الأسماء!) أو
بدافع العَلْمَنَة (مثلاً توظيف السفور دون المحجّبات!) أو بدافع
المحسوبية (كالتسهيلات والترقيات للبعض والتعسيرات للبعض الآخر) وما
أشبه..
إنّ تنفيذ مثل هذا الاقتراح بالنظرة إلى المواطنين من نافذة
(المواطنة والكفاءة والإنسانية) يساعد على نزع فتيل الفتن الطائفية
ويضمن لجميع المواطنين حقوقهم ومساواتهم أمام القانون.. وبذلك يستقرّ
الوضع الأمني بأسس ضامنة ومعطيات مضمونة، فتمتدّ جسور الثقة بين الناس
وبينهم والسلطة وتعمّ الفرحة والراحة.. وتندحر ثقافة الشك والكراهية
والضغينة بإذن الله.
فيا أيها الشرفاء.. يا شركاء الوطن: نؤكّد على هذه النصائح والحلول
قبل انتقال مِحَن البلدان المجاورة (والعراق خاصة) إلى وطننا الحبيب..
ألا إنّ (البحرين) أمانة في أعناق (الجميع)!!