هللت
المواقع الإلكترونية وبعض الصحف العربية أمس للبيان الذي أصدره د.محمد
البرادعي بخصوص ترشيحه للرئاسة في مصر والذي تضمن شروطاً أربعة للترشيح
وهي توافر الديموقراطية الكاملة في الانتخابات والمراقبة الدولية للعملية
الانتخابية والمساواة في الدعاية بوسائل الإعلام ومنح جميع المصريين حق
الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية بلا عوائق!!
وأشار د.البرادعي الذي انتهت مدة رئاسته للوكالة الدولية للطاقة الذرية
إلي ضرورة إجراء الانتخابات في وجود لجنة قومية مستقلة للانتخابات وأن
تخضع لإشراف قضائي كامل وتنقية الجداول الانتخابية وأن يكون الرئيس القادم
"توافقيا" يلتف حوله الجميع الأمر الذي يتطلب فتح باب الترشيح للجميع!!
كما طالب البرادعي بوضع إطار لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي يمكن الشعب من
مختلف طوائفه وانتماءاته من السلطة واحترام الأغلبية وحماية الأقلية
وتوفير تكافؤ الفرص للجميع.
هذا ما طرحه البرادعي والذي نناقشه فيما بعد بعنوان رئيس
سويدي لمصر مفنداً بعضاً من مزاعمه ومحذراً أن يتولي هذا المنصب الخطير
رئيس مزدوج الجنسية حيث يؤكد كثيرون انه يحمل جواز سفر سويدياً ويؤكد
آخرون أنه يحمل جنسية نمساوية وبهذا ينتفي أهم شرط من شروط صلاحيته للمنصب
الرئاسي الذي لا يصلح أن يتولاه مزدوجو الجنسية أو الذين وقفوا ضد بلادهم
لمصلحة قوي غربية وأمريكية وقد فعلها البرادعي وغفرت له مصر ومنحه الرئيس
مبارك قلادة النيل عام 2005 عقب فوزه بجائزة نوبل مناصفة مع الوكالة.
في عام 1997 خلا منصب مدير وكالة الطاقة الذرية وقدمت الدول الأعضاء في
الوكالة مرشحيها وكان مرشح مصر د.محمد شاكر بينما كان د.محمد البرادعي
مرشح الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخري.. وفاز البرادعي بالمنصب
بأغلبية الأصوات التي كانت تري عدم حصول مرشح مصري له ولاء عربي وقومي علي
المنصب خصوصاً وأن الرئيس حسني مبارك كان قد أطلق قبلها بعام دعوته
الشهيرة بإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل!
لو فاز شاكر فهذا يعني محاصرة إسرائيل وإلزامها بضرورة التخلي عن أسلحة
الدمار الشامل وهذا لن يتأتي في ظل التأييد الأمريكي لها.. من ثم كان وقوف
واشنطن وراء البرادعي في هذه المرحلة.
إلا أنني سأعود بعد ذلك إلي شرح كيف استجاب البرادعي للضغط الأمريكي في
مسألة ضرب العراق. وكيف أقنعته كوندليزا رايس بأهمية الرضوخ للمطالب
الأمريكية حتي يتم التجديد له في منصبه بالوكالة الذرية للطاقة لمدة أربعة
أعوام أخري ليكمل بذلك 12 عاماً في المنصب الهام.
لكن دعونا الآن نعد إلي ما طرحه د. البرادعي في بيانه والذي وضح منه انه
"مسرور" من المناشدات والنداءات التي وجهها له سياسيون ومنظمات وقاض
مستقيل وحزب لا يتجاوز عدد أعضائه 500 شخص!!
البرادعي رهن استجابته للنداءات التي وجهت له بالوفاء بالشروط التي رآها
لازمة ليتنازل ويقبل الترشيح للرئاسة وهو شيء نادر في العرف الدولي فلم
يحدث أن "اشترط" مرشح مهما كان قدره علي الذين رشحوه!.. الطبيعي أن يتقدم
المرشح ببرنامج انتخابي واقعي يتعرف من خلاله الناخبون علي المزايا التي
يمكن أن يوفرها لهم وكيف سيساهم في حل مشاكلهم العاجلة مثل البطالة وتحسين
مستوي المعيشة وتطوير الرعاية الصحية وتقدم التعليم وتوفير وسائل نقل آمنة
وتحسين الطرق والمرافق والخدمات.
هذا ما يفعله أي مرشح رئاسة في العالم. ولم نسمع عن مرشح يطالب بشروط قبل أن يعلن ترشيحه.
برنامج الإخوان
إن المكانة العالية التي شغلها د. البرادعي في المجتمع الدولي جاءت نتيجة
لخبرته في فرع وحيد من فروع السياسة الخارجية وهو نزع السلاح. غير أن ذلك
لا يعني بالضرورة أن يعهد إليه برئاسة الدولة وإدارة ملفاتها وقضاياها
الاقليمية والمحلية والدولية لمجرد كونه حقق سمعة عالمية في مجال تخصصه..
وإذا كانت السمعة هي أساس الاختيار فان للدكتور مجدي يعقوب أخصائي القلب
نفس الشهرة العالمية لكنها لا تتيح له أن يرشح نفسه.. فالخبرة والسمعة في
مجال التخصص حتي لو كانت عالمية ليست ضمن "مسوغات" التعيين في منصب رئيس
الجمهورية. لأنها ليست وظيفة "وجاهة" كما أنها لا يمكن أن تكون "بدلة"
تفصل علي مقاس صاحبها!
انها تكليف بمسئولية ضخمة.. والمسئولية ليست "انتقائية" بل هي شاملة
بالمزايا والعيوب.. بالسلبيات قبل الإيجابيات وليس كل من يتصدي للمسئولية
يكون أهلاً لها.
لقد طالب د. البرادعي في بيانه بفتح باب الترشيح أمام كل المصريين سواء
أعضاء في أحزاب أو مستقلون وهو نفس ما ينادي به الإخوان.. من غير المعقول
أن تنادي شخصية دولية بحجم ومكانة د.البرادعي بفتح باب الترشيح أمام كل
المصريين لأن الإخوان يريدون ذلك.. ابتعاد د.البرادعي الطويل عن مصر جعله
ينسي أن الإخوان يطالبون بفتح الترشيح أمام الجميع لأنهم "غير شرعيين".
مرشح الرئاسة - بالذات يجب أن ينتمي لدولة المؤسسات.. وأن يعبر عن برنامج
سياسي لحزب قائم وليس لتيار ديني يبيع هويته المصرية للأجندة الإيرانية
حيناً والمصالح الفلسطينية حينا آخر. ويستعين أو يستقوي بأمريكا إذا ما
دعت الظروف!
لقد دعا المستشار الخضيري - مثلاً - نائب السفير الأمريكي بالإسكندرية إلي
ممارسة رقابة علي الانتخابات التشريعية والرئاسية في مصر والتدخل لضمان
نزاهة العملية الانتخابية.. وهو أيضاً ما يطالب به البرادعي.. والخضيري
أحد أصحاب المناشدات القوية للبرادعي لترشيح نفسه.
يستحيل أن يقبل المصريون بفتح باب الترشيح للرئاسة لأشخاص لا تقف وراءهم
أحزاب شرعية يستطيع أن يحاسبها الناخبون علي برامجها وما قدمته للحياة
السياسية والأجندة التشريعية في مصر.
حزب الوفد - رغم خلافي معه - له برنامج انتخابي معلن ومثله أحزاب التجمع
والناصري والأحرار وغيرهم.. رئيس مصر ينبغي أن ينتمي لدولة مؤسسات وليس
إلي مغامرين أو جماعات محظورة يهمها الدين قبل الوطن ولا تمانع من انتخاب
أي مسلم رئيساً لمصر طالما كان رشيداً عاقلاً.. ومن ثم يستوي في ذلك
التركي مع السويدي والنمساوي والماليزي والإيراني طالما أنهم يدينون
بالإسلام.
إننا لم نسمع - إلا في حالات معدودة - عن تقدم مرشحين مستقلين لانتخابات
الرئاسة.. العادة أن تقف الأحزاب وراء مرشحيها فهي التي تؤكد أن الدولة
تحترم الكيانات المؤسسية بها وهذا ما يحدث في العالم كله.
أما اللجنة القومية التي دعا إليها البرادعي لتولي الإجراءات الخاصة
بالعملية الانتخابية فهي قائمة فعلاً وبها عدد من القضاة الموقرين.. أما
الإشراف القضائي الكامل فهو غير مطبق في أي دولة ديموقراطية بالعالم فلا
الهند أو فرنسا أو أمريكا تصر علي الإشراف القضائي بالانتخابات كما أن هذا
الشرط يحمل اتهاماً للطبقات الأخري بالمجتمع بعدم النزاهة.. القضاة ليسوا
وحدهم الشرفاء في هذا البلد. ولكن هناك غيرهم يتسمون بالنزاهة والعدالة
ضمن فئات المجتمع الأخري.
وأعود مرة أخري للنقطة التي أثارها البرادعي في بيانه والخاصة بإتاحة فرص
متساوية للمرشحين لعرض برامجهم في وسائل الإعلام. والحقيقة أن انتخابات
2005 شهدت تغطية إعلامية محايدة لكل المرشحين للرئاسة وحصلوا علي فترات
متساوية في الإعلام الرسمي "التليفزيون والإذاعة" بل ان برنامج الرئيس
مبارك وخطابه عرضا في قناة خاصة وليس في تليفزيون الدولة.. يا دكتور
برادعي أنت لا تعيش في مصر.
فضيحة العراق
كان لمحمد البرادعي دور في غزو العراق عام ..2003 فقد رأس هو وهانز بليكس
فرق مفتشي الأمم المتحدة في العراق وصرح في بيانه أمام مجلس الأمن في 27
يناير 2003 قبيل غزو الولايات المتحدة للعراق بأن فريق الوكالة الدولية
للطاقة الذرية لم يعثر "حتي الآن" علي أنشطة نووية مشبوهة في العراق كما
لم يأت تقرير هانز بليكس رئيس فريق التفتيش علي أسلحة الدمار الشامل بما
يفيد وجود هذه الأسلحة.
لكن فجأة غير البرادعي موقفه عقب اجتماع قيل إنه عقد مع كونداليزا رايس
"مستشار بوش للأمن القومي وقبل أن تحصل علي منصب وزير الخارجية خلفا
لكولين باول" نوهت فيه د. كونداليزا رايس إلي أن موعد التجديد له في منصبه
يحل العام بعد القادم 2005 وستكون هذه آخر مدة له لأنه سيكون بعدها قد
أكمل 12 عاما في المنصب الدولي.. وأردفت أن واشنطن تريد أن تساعده!! فهم
البرادعي الرسالة.. وقال بعد ذلك إن هناك 377 طنا من المتفجرات مخبأة في
العراق وأنه لم يعلن عنها في بيانه الأول لأنه لم يكن متأكدا من وجودها
وإن كانت هناك دلائل تشي بذلك لذلك تحفظ بقوله حتي الآن
واستطرد البرادعي قائلا: أما الآن فقد تأكدنا من وجود هذه المتفجرات!! غير
أن ضلوع واشنطن في التنصت علي مكالماته بعد ذلك علي أمل العثور علي ما
يدينه لتبعده عن رئاسة الوكالة الدولية للطاقة الذرية دفعه إلي تفجير
مفاجأة من العيار الثقيل في شهر أكتوبر 2004 وهو الشهر السابق علي
الانتخابات الأمريكية عندما أعلن اختفاء ال 377 طنا من المتفجرات بالعراق
بعد سيطرة الجيش الأمريكي عليها.. ورغم هذه المفاجأة لم يستطع البرادعي
تقديم الدليل علي صحتها.
لذا رفضت واشنطن إعادة ترشيحه لفترة ثالثة ورغم عدم وجود مرشحين أمام
البرادعي آنذاك. إلا أن أمريكا سعت.. لإقناع رئيس الوزراء الاسترالي
الكسندر كونو بالترشيح لكنه رفض فأجل قرار مجلس محافظي الوكالة حتي نهاية
مايو ..2005 ثم عادت واشنطن واسقطت اعتراضاتها عليه في 9 يونيو بعد مقابلة
طويلة مع كونداليزا رايس وهو ما فتح الطريق أمام مجلس محافظي الوكالة
للموافقة عليه في 13 يونيو بعد أن حصلت منه علي تعهد بعدم اعتراض السياسات
الأمريكية في العالم.. وهو ما بدا واضحا في عدم صدور قرار واحد أثناء
رئاسته للوكالة يدين النشاط النووي الإسرائيلي. كما أنه وافق علي أن يكون
التفتيش الوحيد الذي أجراه علي مفاعل ديمونة وغيره من المنشآت النووية "من
الجو" حيث طار فوق المواقع بطائرة هليكوبتر قدمها له الجيش الإسرائيلي
وكان هذا أعجب تفتيش في تاريخ الوكالة.
وبعد.. ليس هناك اعتراض علي البرادعي كمواطن مصري حاز علي سمعة عالمية
وشغل منصبا مرموقا. لكن الاعتراض علي الطريقة التي صاغ بها بيانه وشروطه
التي تجعل قبوله الترشيح ضربا من المستحيل وسط هذا المجتمع.. المصريون
البسطاء الذين لا يعرفهم البرادعي لا يقبلون أبدا من يفرض عليهم شروطا..
حتي لو كان عالما جليلا في حجم د.محمد البرادعي.