غزة- تسكت آخر صرخات الأم بعدما وضعت وليدها المنتظر.. تمحو ابتسامة الفرح من على وجهها آثار الوجع، ويحمل الطبيب في يده المولود الجديد ليسلمه لها.. تنتظر والدته سماع بكائه كما يفعل كل طفل يصافح الحياة للمرة الأولى.. لكن الوليد صامت إلا من أنين مكتوم تصرخ به ملامح وجهه، وبعد نقله سريعا للعناية المركزة اكتشف الأطباء أن حالته سببها عدم اكتمال نمو قلب الصغير.
الأم الشابة أم عبد الله النخالة واحدة من عشرات الأمهات بقطاع غزة اللواتي سرقت حالات تشوه مماثلة فرحتهن بالولادة، بعد أن فجعن بأن آثار بعض الأسلحة الإسرائيلية التي استخدمت في العدوان الأخير على غزة استوطنت أجسادهن، وتسللت سمومها إلى الأجنة لتضمن إسرائيل أن آثار عذاب عدوانها ستنال من الأجيال القادمة.
الأم القاطنة في منطقة جبل الريس شرق مدينة غزة روت مأساتها قائلة: "كنت حاملا في أيامي الأولى عندما بدأت الحرب، وقبل 5 أيام وضعت طفلي في مستشفى الشفاء، وأخبرني الأطباء أن المولود يعاني من عدم اكتمال نمو القلب، حيث لا يوجد له بطين أيسر، ولا يضخ الدم للجسم بسبب انسداد الصمام والشريان الرئيسي".
ومنطقة جبل الريس من الأماكن التي شهدت أعنف وأقسى المعارك بين قوات الاحتلال ورجال المقاومة، كما أنها تعرضت لضربات إسرائيلية عنيفة بأسلحة متطورة، من بينها القذائف الفسفورية، في العدوان الإسرائيلي الذي استمر في الفترة من 28 ديسمبر 2008 إلى 18 يناير 2009، وأدت إلى استشهاد نحو 1420 فلسطينيا، وجرح أكثر من 5450 آخرين، بخلاف تدمير آلاف المنازل والمباني
.
تقول "مريم يونس" وهي تبكي طفلها البكر إنها اكتشفت معاناة مولودها بعد رفضه الرضاعة، وحين عرضته على الأطباء تبين أنه يشتكي من انسداد صمام في القلب.
وتناشد الأم التي تراقب وزن طفلها وهو يتضاءل يوما بعد يوم كل المؤسسات الصحية الدولية بعمل اللازم لعلاج ابنها ومن على شاكلته من حالات يتعذر التعامل معها في غزة المحاصرة.
5 حالات ...
وكشف الدكتور "معاوية حسنين"، مدير عام الإسعاف والطوارئ بمستشفيات قطاع غزة، عن تسجيل 5 حالات مشوهة لأطفال ولدوا خلال شهر سبتمبر الجاري، متوقعا تسجيل المزيد.
وقال: "بعد مضي تسعة أشهر على الحرب الإسرائيلية اكتشفنا حالات تشوه لمواليد حملت بهن نساء خلال فترة الحرب وبعدها، وأثبتت نتائج الفحوص والعينات التي أخذت بواسطة مستشارين وخبراء بعلم الأجنة أنهم أصيبوا بهذه التشوهات جراء استخدام الأسلحة المحرمة دوليا مثل الفسفور الأبيض وسلاح دايم، ولم تكن حالات التشوه نتيجة لعوامل وراثية بل إن كل الأمهات اللواتي أنجبن هذه المواليد أكدن استنشاقهن لغازات سامة".
وأضاف أن أكثر الحوامل المعرضات لإنجاب مواليد مشوهين "هن اللواتي يعشن في المناطق الحدودية والأماكن التي تعرضت لقصف إسرائيلي مكثف كشرق وشمال مدينة غزة".
وأشار الدكتور حسنين إلى أن أبرز التشوهات التي اكتشفها الأطباء تشمل تشوه الأعضاء الداخلية، وفي مقدمتها القلب والرئتان، وتشوهات خارجية كالأيدي والأرجل، لافتا إلى أن "البحث جار لاستكشاف مزيد من الحالات.. فآثار الحرب على صحة الغزاويين لا زالت تظهر وتطفو بشكلها المخيف على السطح شيئا فشيئا".
ولفت إلى أن المؤسسات ولجان التحقيق الدولية والتي كان آخرها لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة أخذت عينات من بقايا الأسلحة الإسرائيلية المستخدمة خلال الحرب على غزة، "لكنها رفضت أن تظهرها للعالم من أجل ألا يقاضى قادة الاحتلال ويلاحقوا في المحاكم الدولية بتهم جرائم حرب ضد الإنسانية".
من الفلوجة إلى غزة
ويعد ما يجري لمواليد غزة من تشوهات جراء الأسلحة المحرمة دوليا التي استخدمتها إسرائيل خلال الحرب تكرارا لكارثة مشابهة وقعت في مدينة الفلوجة العراقية التي تعرضت لحملة عسكرية شرسة من جانب القوات الأمريكية أدت لتدميرها بشكل شبه كامل عام 2004، وتحدثت منظمات دولية عن استخدام الفسفور وأسلحة محرمة أخرى خلالها.
وحسب ما رصدته شبكة "سكاي نيوز" البريطانية بداية سبتمبر الجاري فإن الشهور الثمانية السابقة شهدت تزايدا ملحوظا في عدد المواليد المشوهين في المدينة العراقية المنكوبة، بدءا من تشوهات البطن وحتى تشوهات الجسد التي تتسبب في وفاة العديد منهم قبل بلوغهم سن الخامسة، هذا بخلاف ما جمعته من صور لأجنة مشوهين لم يشأ الله أن يخرجوا للحياة.
والفسفور الأبيض والمعروف بـ"ويلي بيت" عبارة عن مادة دخانية كيماوية تخترق الجلد والعظام وتحرقها، وتتحول إلى مادة مشتعلة بمجرد تعرضها للأكسجين، مخلفة سحابات بيضاء كثيفة، وتسبب القنابل الفسفورية حروقا قاتلة، ويغطي الجثث المصابة بها رماد أسود، ويميل جلد الضحية للون الداكن.
أما سلاح "دايم" الذي أشارت مصادر طبية أيضا إلى استخدام إسرائيل له خلال الحرب على غزة فهو عبارة عن قنابل المعدن الكثيف الخامل المصنوعة من أشباه التنجستين، وتتبدد قوة انفجارها بسرعة شديدة، ولا تذهب شدتها بعيدا، ربما إلى مسافة عشرة أمتار فقط، لكن البشر الذين يتعرضون لهذا الانفجار، وموجة الضغط الناتجة عنها يتمزقون إربا.
وربط العديد من الأطباء بين استخدام إسرائيل هذا السلاح وبين عدد من الإصابات الغريبة التي وجدوها خلال رحلات الإغاثة التي نظموها لعلاج مصابي الحرب على غزة في يناير الماضي، ومن هؤلاء الدكتور "مادس جيلبرت" رئيس الفريق الطبي النرويجي الذي عمل بعض الوقت في مستشفى الشفاء بغزة فور انتهاء الحرب، وأيد ذلك خبير الأسلحة البريطاني "دان ويليامز".