تلقيت
الأسبوع الماضى دعوة كريمة للقاء د. محمود محيى الدين مدير البنك الدولى
ووزير الاستثمار السابق.. وأثناء الحوار معه لاحظت خفوتاً فى ضحكته ومرارة
فى صوته وزوغاناً فى نظراته، ونظراً لوجود جمع من الزملاء لم أسأله عن
الأسباب، خاصة وأنا أعلم أنه أجاب عن بعضها فى حوارات صحفية أخرى بإجابات
دبلوماسية لا تشفى غليلاً ولا تروى من عطشاً.
فهل كان د. محمود ينتظر
استقبالاً رسمياً وشعبياً أكثر حرارة فى مهمته الأولى بوظيفته الحالية
لبلده مصر والتى لم يغب عنها أكثر من 184 يوما؟
أم لأن الزيارة صادفت
ظهور مشكلة «عمر أفندى» والتى كانت عبارة عن «صداع» فى رأسه عندما كان
مسئولا عن برنامج الخصخصة بسبب الرفض الواضح من الرأى العام ببيع تلك
الشركة باعتبارها من رموز النشاط التجارى والاقتصادى المصرى؟
أم
لمصادفة الزيارة مع انعقاد المؤتمر السابع للحزب الوطنى - والذى كان عضواً
نشطاً فى أمانته العامة ورأس لجنته الاقتصادية لسنوات عديدة - وما يعنيه
هذا الانعقاد من تواجد سياسى مطلوب من خلال الحديث المتواصل فى الجلسات
المختلفة، وأيضاً «تواجد» إعلامى مرغوب طوال فترة المؤتمر وما بعدها؟
أم
كان ذلك بسبب تصادف الزيارة أيضاً مع الاجتماع المطول بين رئيس الوزراء
ووزير الصناعة والتجارة المشرف على وزارة الاستثمار لبحث مستقبل الأخيرة
سواء باختيار وزير جديد لها أم بدمج بعض هيئاتها فى وزارة الصناعة ونقل
تبعية الأخرى لمجلس الوزراء مثل هيئة الاستثمار وهيئة الرقابة المالية؟
مدى
علمى أن الوظيفة الجديدة للدكتور محمود محيى الدين جاءته فى وقت قاتل، حيث
كان يستعد فيه لدخول مجلس الشعب المصرى خلفا لعمه المناضل الكبير خالد
محيى الدين وذلك حفاظا على مقعد الأسرة فى البرلمان والذى توارثته أجيال
العائلة جيلا بعد آخر، خاصة أن نجاحه كان مضمونا بسبب شعبيته الكبيرة فى
دائرة كفر شكر والذى كان يحرص على مشاركة أهلها صلاة الجمعة أسبوعيا
مرتديا الجلباب البلدى والبُلغة ممسكا بسبحة فى يده كعادة الأعيان وأبناء
العائلات الثرية فى الريف المصرى.
ولكن هل كان د. محمود يملك الرفض بعد
أن استوفى شروط الوظيفة ووقع عليه الاختيار؟ أعتقد أنه كان أمام موقف لا
تراجع فيه ولا استسلام - كما تقول عناوين الأفلام - فقط أعلن البنك عن
الوظيفة الشاغرة وبادر هو بتقديم أوراقه.. وفى كل تلك المراحل من بداية
التقديم حتى وقوع الاختيار عليه لم يكن يتم ذلك فى الخفاء أو للمناورة أو
مفاجأة المصريين شعبا وحكومة بتلك الوظيفة الدولية.. فمن الواضح أنه
«استأذن» واستشار وحصل على الضوء الأخضر، بل يمكن القول بأنه حصل على
مساندة وتشجيع من القيادة السياسية فالتواجد المصرى فى مثل تلك المؤسسة
الدولية المهمة مطلوب وفيه مصلحة كبرى للبلاد والعباد.
وبالطبع لم يكن من المقبول بعد كل ذلك أن يتراجع د. محمود أو يرفض الوظيفة وإلا عرّض نفسه للوضع فى «القائمة السوداء» عالميا ومحليا.
هذا
على المستوى الرسمى، أما على المستوى الشخصى فطموح د. محمود العلمى
والعملى والسياسى لا حدود له، فقد عمل مع الكثير من الجهات المحلية
والعالمية وكان لابد أن يجرب العمل داخل أهم تلك المؤسسات وهو البنك
الدولى، ثم أن أستاذه د. يوسف بطرس سلك ذات الطريق من قبل وعاد منها وزيرا
ومازال أهم وزراء الحكومة المصرية، ومن قبل كان أ. إبراهيم نافع الذى عاد
من هناك رئيسا للأهرام.
وقد يصادف الحظ د. محمود ويعود رئيسا للوزارة
المصرية بعد أن جمع بين الحسنيين.. خبرة العمل التنفيذى المحلى من خلال
مسئوليته عن وزارة الاستثمار، وأيضاً بحصوله على الخبرة الدولية فى أهم
بيت خبرة عالمى.
كل هذه الظروف والملابسات أحاطت بالدكتور محمود فى
زيارته الأولى لمصر، فضلاً عما قرأه أو سمعه عن شبه التراجع عن استكمال
«مشروعه» طريق الصعيد البحر الأحمر، أو بُعده عن ابنته الوحيدة ذات
السنوات القليلة، إلى جانب غيابه عن مسقط رأسه وذكريات طفولته ومشاغبات
فترة الشباب عن «كفر شكر» محبوبته ومستقره بعد سنوات الكفاح العلمى
والعملى.
***
ما سبق كان مجرد «اجتهاد» منى لتفسير ما لاحظته على
وجه د. محمود عند لقائى معه، وقد تكون تلك الاجتهادات التى أوردتها صحيحة
وقد تكون خاطئة، ولكن ما دفعنى للمحاولة أننى لست وحدى من لاحظ ذلك أو
تحدث فيه، خاصة أن د.محمود استقبل على المستوى الرسمى استقبالاً حافلاً
والتقى مع رئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزى وعدد كبير من الوزراء
المصريين زملائه السابقين، كما ألقى كلمة فى اجتماع خاص بجامعة الدول
العربية.
وعلى المستوى الشعبى نظمت له مجموعة من اللقاءات الخاصة منها لقاء مع مجموعة من المحررين الاقتصاديين القريبين منه.
***
على
أية حال كل ما تقدم كان بسبب زيارة د. محمود محيى الدين مدير البنك الدولى
والوفد المرافق له لمصر، وذلك للتشاور مع جامعة الدول العربية والوزراء
المصريين المعنيين بشأن التنسيق المشترك للمبادرة العربية التى يدعمها
البنك الدولى ماديا وفنيا وهى المبادرة التى تقوم على ثلاثة محاور: الأول
منها خاص بالتعاون فى مجالات البنية الأساسية مثل مشروعات الربط الكهربائى
والموانى والطرق والسكك الحديدية، والربط بين شبكات الإنترنت والتعريف
بمحتوياتها.
والمحور الثانى يعتمد على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة
ومتناهية الصغر لتوفير فرص عمل جديدة للشباب العربى ولدعم وزيادة معدلات
النمو فى الناتـــج المحلــى العربى.
والمحور الثالث يهتم بما يمثــل
الاستثمار فى البشر من خلال التعاون فى مجالات التعليم والصحة والتنمية
البشرية وجودة مشروعات التدريب والارتقاء بالمهارات، فالبنك يتطلع إلى
استراتيجية عربية جديدة فى مجال التعليم والتى يمكن الاسترشاد فيها
بالقواعد والمعايير الدولية، مع ملاحظة أن البنك لا يتدخل فى مضمون تلك
الاستراتيجية أو المناهج المقررة ولكن توحيد المعايير والقواعد التى لا
خلاف عليها مثل مناهج تدريس العلوم والرياضيات على سبيل المثال.
وقد
قلت للدكتور محمود إن البنك الدولى فى الأزمة العالمية الأخيرة بدا كقسم
شرطة اللبان فى الإسكندرية فى فترة ظهور قضية «ريا وسكينة»، حيث كان
وكرهما خلف القسم مباشرة.
وقد فشل البنك من قبل فى قراءة مؤشرات الأزمة
التى حدثت عام 97 فى دول شرق آسيا، بل وصفتها تقاريره بالنمور الآسيوية،
وعاوده الفشل مرة أخرى ولكن هذه المرة فى البلد الذى يتخذه مقرا له مع
شقيقه صندوق النقد الدولى، فكيف يفشل بيت الخبرة العالمى للاقتصاد الدولى
فى قراءة مؤشرات الأزمة العقارية الأمريكية والتى أطاحت باقتصاديات الكثير
من الدول والشركات فى جميع أنحاء العالم؟
وبسرعته المعهودة فى الرد
أجابنى د.محمود أن المشكلة لم تكن فى سوء الفهم أو عدم القراءة الصحيحة
وإنما فى «التغييرات» فى علم الاقتصاد ذاته، وأيضاً فى التطبيق، مشيراً
إلى اتخاذ البنك مفاهيم جديدة تعتمد على البرجماتية والمرونة.. والمشاركة
موضحا أن رئيس البنك أشار إلى بعض هذه المتغيرات الجارية ومنها تعدد
الأقطاب الاقتصادية وصعود الدول الآسيوية وهو ما يعنى ضرورة اتخاذ سياسات
جديدة للتعاون مع هذه الظواهر حيث سيعاد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمى من
خلال المراجعة والتنسيق والإفصاح الكامل للمعلومات.
فالبنك يعمل على
استقرار الاقتصاد العالمى من أجل تحقيق هدفه الأساسى والمكتوب على مدخل
مقره بالعاصمة الأمريكية.. حلمنا مكافحة الفقر
المصدر
جريدة اكتوبر
http://octobermag.com/issues/1784/artDetail.asp?ArtID=109425