تحقيق - أحمد الشريفقرية "عرب البراوي" - التابعة لمحافظة حلوان - ليست كأي قرية مصرية،
نحسدها على هدوئها، ولكنها قرية كتب على أهلها أن يعيشوا وسط رعب دائم،
وتبدلت هدير سواقيها بأصوات الطلقات النارية، وتحولت براءة أطفالها إلى
إحساس بالخوف، ولم يعد الفلاحين بها يحصدون سوى الفزع، واختفت أحاديث
السمر الليلية من البيوت، فالجميع لا يكاد يرى أخر نور للشمس قبل غروبها
حتى يسارعون بالاختباء وراء جدران بيوتهم البسيطة.فقد تحولت هذة
القرية إلى وكر للصوص، ولكنهم لصوص متخصصون في بضاعة رائجة وهي معدات
السكة الحديد والتي أصبحت مال "سائب" يسطو عليه كل من هب ودب، وكان أخرها
منذ أيام قليلة، عندما سرقت ال "سيمافورات" بين محطتي بركة السبع وطنطا،
وتسبب ذلك في تعطل حركة القطارات لأكثر من 7 ساعات، ولولا العناية
الإلهية لوقعت كارثة لا يُحمد عُقباها.
الأشباح يسكنون القريةعندما
وطأت أقدامي أرض "عرب البراوي" - وعلى الرغم ان يسكنها ما يقرب من 40 ألف
نسمة - إلا أنني شعرت أن ساكنيها فقط من الأشباح؛ فالشوارع خاوية مع العلم
أن ضوء النهار لم يغب بعد، وكل بيت عليه باب مغلق بأكثر من "قفل"، وفي
مدخل القرية وجدت مفاجأة - بل كارثة - عندما شاهدت طفلة صغيرة تلهو برصاصة
طلق ناري فارغة، والتي وجددتها في الشارع وعندما اقتربت منها اكتشفت أن
لديها الكثير وأنها وأطفال أخرون يجمعونها من الشارع بعد كل معركة من
معارك لصوص السكة الحديد.
قطارات الكوك والفوسفاتعلى
أطراف القرية وصلت إلي المكان سبب نكبتها وأساس طمع اللصوص فيها وهو شريط
السكة الحديد الذي يحزم القرية من ناحية الغرب، وهذا الشريط يمر عليه
خطين من القطارات؛ الأول لحمل فحم الكوك من الإسكندرية حتى مصانع الحديد
والصلب بحلون، أما الخط الثاني فهو لقطارات نقل الفوسفات من منطقة "أبو
طرطور" - التي تبعد مسافة 60 كيلو متر عن واحة الخارجة -، وعلى جانبي شريط
السكة الحديد وجدت عشرات من عربات قطارات البضائع المتهالكة وأكوام من
الحديد و"الفلنكات"، وحتى السور الأسمنتي الذي بُني ليفصل بين القرية
وشريط السكة الحديد لم يسلم من أيد اللصوص وقاموا بتحطيمه لتسهيل عملية
نقل المسروقات وتحميلها على السيارات.
أسلحة نارية وبيضاءطرقت
على باب أحد الأهالي فخرج لي شخص يدعى "سامح" - في الأربعين من عمره - وقد
تخوف من الحديث معي في البداية لأن ذلك قد يهدد حياته وحياه أهله لو وصل
الأمر إلى اللصوص، ولكن تدريجيا بدأ في الحديث قائلا: "قبل عشر سنوات كانت
قريتنا تنعم بالهدوء حتى عرف طريقها اللصوص، الذين يحضرون من قرى ومحافظات
مجاورة مثل الفيوم وبني سويف للسطو على معدات السكة الحديد ومستلزمات
القطارات التي تتوقف لأوقات طويلة عند أطراف القرية، واللصوص يحضرون ليلا
مدججين بالأسلحة النارية والبيضاء داخل عربات كبيرة (نصف نقل)، ودائما ما
تحدث بينهم مشاجرات دامية لتنازعهم على حصيلة السرقات، ويتخذون الزراعات
مأوى لهم دون أن يعترضهم أحد".
إصابات بشرية وتدمير للمحاصيلتدريجيا
بدأ أهالي القرية في التجمع حولي ليتحدثوا عن المشكلة، لعل ذلك يكون طوق
نجاة لهم، يرحمهم من الجحيم الذي يعيشون فيه، ومن هؤلاء الأهالي "ناصر
أيوب" وهو فلاح بسيط يمتلك خمسة قراريط من الأرض الزراعية المجاورة لشريط
السكة الحديد، والذي أوضح أن محصول الذرة تعرض للبوار هذا العام، بعدما
دمره اللصوص سواء أثناء مشاجرتهم أو تحميلهم للمسروقات وقيام السيارات
بدهس المحصول، وهذا ما يحدث لأكثر من 20 فدان مجاور للسكة الحديد، ولفت
إلى انه لا يبقى في أرضه لوقت متأخر، لأن ذلك معناه انتحار فعلي، وقد
اعتاد على أن يجد عشرات طلقات النار وسط محصول الأرض.الأهالي أكدوا
على أن إصاباتهم بنيران اللصوص طالت الكثير منهم وكان أخرها كما تقول سيدة
من القرية وتدعى "سميرة" إصابة ابنها ب"شظية" من النار أثناء عودته ليلا –
قبل أسبوعين - من الجامعة ومروره بجوار شريط السكة الحديد، ليقوم أحد
اللصوص بإطلاق النار نحوه، ظنا منه انه من رجال الأمن، ولكن العناية
الإلهية أنقذته، واستطاع الفرار بعد إصابته بجرح في ذراعه، ومنذ حوالي عام
أصيب احد الفلاحين أثناء وجوده بالحقل برصاصه في قدمه أقعدته عن الحركة،
وذلك عندما حاول اعتراض اللصوص من المرور وسط زراعته.
حكاية "رامبو" مع السكة الحديدوقد
وجدت أن هناك بعضاً من أبناء القرية الذي بدءوا يسلكون نفس الطريق ولكن –
في العادة- يكون دورهم هو مساعدة اللصوص في عملية السرقة كأن يقوموا
بتخزين المسروقات لديهم إذا تعثر خروجها من القرية، وفي محاولة للوصول إلى
احدهم استعنت بشاب من القرية، والذي اصطحبني في جولتي، وعرفني على احد
المتعاملين مع اللصوص، ويشتهر باسم "رامبو" على اعتبار أنني اعمل في مجال
تجارة الخردة، وأريد شراء كمية من الحديد."رامبو" شاب في الثلاثين
من عمره لم يستكمل تعليمه وخرج من الصف الرابع الابتدائي وعمل في مهن حرة
كثيرة منها عامل بناء وقهوجي نجار ولكنه أراد عملا –حتى ولو كان غير شريف-
يحقق له الثراء السريع، فاختار العمل في سرقة معدات السكة الحديد، والغريب
انه لا يرى أن في ذلك عملا مخالفا، فمن وجهة نظره أن هذة البضاعة مجردة
خردة لا يهتم بها احد، وبدلا من أن يأكلها الصدأ يقوم هو بالاستفادة منها.
الصامولة أغلى من الحديداكتشفت
من خلال جلستي مع "رامبو" أن عملية تقطيع "فلنكات" السكة الحديد وبعض
"صواميل" القطارات الموجودة بالمخزن القريب من القرية يتم بواسطة آلات
حادة آو بآلة التقطيع ب"الأكسجين"، وقد يتم بيع القطع كما هي أو بيعها بعد
تقطيعها بواسطة "القطاعة" إلى أجزاء صغيرة حتى يسهل تداولها دون أن ينكشف
الأمر.وبشكل عام فسعر الكيلو من الحديد يصل إلى 150 قرش، أما
الصواميل فسعرها أعلي، وتُباع بالواحدة وسعر الصمولة يتراوح بين 50 قرش
واثنين جنيه حسب حالتها، وعادة ما يشتري هذة البضائع تجارة خردة من محافظة
الغربية والقليوبية والدقهلية.
10 تجار وثروات طائلة"رامبو"
أوضح لي أن العاملين في هذا المجال حوالي 10 فقط وهم التجار الكبار الذين
كونوا ثروات طائلة أغرت غيرهم في اقتحام مجال عملهم، واعترف أن المنافسة
بينهم حاميه للحصول على اكبر كمية من معدات السكة الحديد وفي سبيل ذلك فكل
شيء مُباح من ضرب نار أو غيره، وكل تاجر يعمل لديه على الأقل 15 فرد
لحمايته ومعاونته في عمله.خرجت من القرية مع حلول الليل ومعي ثلاثة
من الأهالي والذين أصروا على اصطحابي حتى اخرج من القرية، كنوع من التأمين
لأنهم يدركون مدى الخطورة التي قد يتعرض لها شخص غريب بالقرية، ولذلك كان
طريق الخروج بعيدا عن خط السكة الحديد، وهو خط النار حسب تعبير الأهالي.
70 مليون جنيه حجم المسروقات سنوياحملت
كل ذلك وتوجهت لمصدر مسئول بهيئة السكة الحديد والذي أكد على وجود المشكلة
بالفعل، ليس فقط بقرية "عرب البراوي" ولكن على طول خطوط السكة الحديد على
مستوى الجمهورية والذي يصل إلى حوالي 8 آلاف كيلو متر اغلبه يمر على أراضي
زراعية ومناطق غير مأهولة بالسكان.ولفت إلى انه رغم تشديد العقوبات
على أي تعديات على أملاك الهيئة، والتي تصل إلى السجن المشدد لمدة ثلاثة
سنوات، إلا أن حجم المسروقات يتراوح بين 60 و70 مليون جنيه سنويا.وأضاف
المصدر أن الهيئة جهة فنية تعمل في تطوير القطارات وغير ذلك، وليس لها أي
سلطة في حماية ممتلكاتها، كما أنها لا تمتلك الضبطية القضائية لمواجهة
اللصوص.اقرأ أيضا:
(مصراوي) يخوض مغامرة لكشف النقاب عن كهوف المجرمين في بطن جبل الزهراء