عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ
اللهِ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ
مَا عِنْدَهُ قَالَ: ((مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ
عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهِ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ
يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ
مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ)).
أولاً: تخريج الحديث:
الحديث أخرجه مسلم في "كتاب الزكاة"، "باب فضل التعفف والصبر"، حديث (1053)، وأخرجه
البخاري في "كتاب الزكاة"، "باب الاستعفاف عن المسألة"، حديث (1469)، وأخرجه
أبو داود في "كتاب الزكاة"، "باب في الاستعفاف"، حديث (1644)، وأخرجه الترمذي في
"كتاب البر والصلة"، "باب
ما جاء في الصبر"، حديث (2024)، وأخرجه النسائي في "كتاب الزكاة"، "باب
الاستعفاف في المسألة"، حديث (2587).
ثانيًا: شرح ألفاظ الحديث:
((حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ)): نفِد - بكسر الفاء - أي: فرغ،
والمعنى: حتى فرغ ما عنده.
((فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ)): أي: لن أحبسه وأمنعكم إيَّاه.
((وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ)): السين والتاء تدلاَّن على الطلب في (يَسْتَعْفِفْ، يَسْتَغْنِ)؛ أي: يطلب العفة
والاستغناء، فقوله:
((يَسْتَعْفِفْ)): الاستعفاف: طلب العفاف والتعفف، والثاني هو المراد في
حديث الباب، وهو طلب التعفف عمَّا في أيدي الناس، فإنه إن فعل ذلك،
فالنتيجة: ((يُعِفَّهُ الله))؛ أي: يجازيه على استعفافه بصيانة وجهه ورفع
فاقته. t;[color=#000080]النهاية"، مادة (عفف)، و"المفهم" حديث (920)].
((وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ)): أي: يطلب الغنى ممن عنده الغني،
الله - جل وعلا - (يُغْنِهِ اللهُ) فيخلق في
قلبه غنى، أو يعطيه ما يستغني به عن الخَلق.
((وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ)): أي: من يستعمل الصبر ويحمل نفسه
عليه (يُصَبِّرْهُ اللهُ): يقويه ويمكِّنه من
نفسه، حتى تنقاد وتصبر وتذعن لتحمُّل الشدائد.
والصبر: هو حبس النفس عن المكروه، وعقد اللسان عن الشكوى والمكابدة في
تحمله وانتظار الفرج. t;[color=#000080]الفتح"، حديث
(6470)].
ثالثًا: من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث فيه الحثُّ
على خصلتين عظيمتين متلازمتين، وهما: الاستعفاف عما في أيدي الناس،
والاستغناء بما عند الله تعالى.
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: "وتمام ذلك أن يجاهد نفسه على الأمر
الثاني: وهو الاستغناء بالله، والثقة بكفايته، فإنه من يتوكَّل على الله
فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن مَن استعفَّ عما في
أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلُّقُه بالله، ورجاؤه
وطمعه في فضل الله وإحسانه"؛ t;[color=#000080]بهجة قلوب
الأبرار وشرح الأخبار"، الحديث الثالث والثلاثون].
الفائدة الثانية: الحديث فيه دلالة
على عِظَم الصبر، وهي خصلة لها علاقة بالخصلتين السابقتين؛ فالاستعفاف عما
في أيدي الناس مع الحاجة، يحتاج إلى صبر، وتقدَّم أن الاستغناء بما عند
الله - تعالى - يكون بعد الاستعفاف عما في أيدي الناس؛ ليقوى يقينه بربِّه -
جل وعلا.
ولاشك أن الصبر المراد عام في كل أمر يحتاج إلى
صبر، وإليك هذه المباحثَ اليسيرة فيه:
أولاً: تعريفه:
هو مصدر "صَبَر يصبر"، وهو مأخوذ من مادة (صبر)، التي تدل من حيث اللغة على ثلاثة معانٍ:
الأول: الحبس، والثاني:
أعالي الشيء، والثالث: جنس من الحجارة.
t;[color=#000080]لسان العرب"، مادة (صبر)].
وفي الاصطلاح: ذكر له أهل العلم عدةَ تعريفات - وهي متقاربة - منها ما ذكره
ابن حجر - رحمه الله - وتقدم في ألفاظ الحديث، ومنها:
قيل: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن
الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش.
وقيل: هو ترك الشكوى من ألم البلوى لغير الله
إلى الله تعالى.
والله - تعالى - أثنى على أيوب - عليه السلام - بالصبر بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ
أَوَّابٌ} [ص: 44]، مع أن أيوبَ دعا برفع الضر عنه بقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ
وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
فعُلم أن العبد إذا دعا اللهَ - تعالى - في كشْف الضر عنه، فإن هذا لا يقدح
في صبره، وهناك تعريفاتٌ أخرى غير ما ذكر. t;[color=#000080]مدارج
السالكين"، لابن القيم، 1/162، 163].
ثانيًا: للصبر أنواع:
قال ابن القيم - رحمه الله -: "الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على
الأوامر والطاعات حتى يؤدِّيها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع
فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يسخطها"؛ [انظر: المرجع السابق،
1/165].
فالصبر على الطاعات: كالصبر على الصلوات
فرضًا ونفلاً، والصيام، وقراءة القرآن، وغيرها من أنواع الطاعات.
والصبر على المعاصي: كالصبر على الشهوات
المحرَّمة، كالزنا، والنظر الحرام، والأكل الحرام، وغيرها من أنواع
المعاصي.
والصبر على الأقدار والأقضية:
كالصبر على الابتلاء والمصائب والأوجاع،
وفوات بعض المصالح، وحصول بعض المكاره المقدَّرة.
ثالثًا: أهمية الصبر:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "قد ذكر الله الصبر في كتابه في
أكثرَ من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله: {وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وجعل الإمامةَ في الدين موروثةً عن
الصبر واليقين بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]، فإن الدِّين كلَّه علمٌ بالحق وعمل به،
والعمل به لا بد فيه من الصبر؛ بل وطلبُ علمه يحتاج إلى صبر" 000080]البصائر": 3/376].
رابعًا: حكم الصبر:
أمر الله - عز وجل – بالصبر؛ فقال: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، ونهى عن ضدِّه، فقال -
تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْبِرْ
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ}
[الأحقاف: 35]، فالعجلة ضد الصبر.
وأما حكمه، فقد ذهب ابن القيم - رحمه الله - إلى وجوبه، ونقل الإجماعَ على
ذلك، فقال: "وهو واجب بإجماع الأمَّة" ot;[color=#000080]المدارج" 2/174].
ولعله - رحمه الله - أراد الصبر على الأمور الواجبة، أو عن الأمور
المحرَّمة.
ومن أهل العلم مَن ذهب إلى التفصيل، وما أجملَ ما قاله الإمام الغزالي -
رحمه الله -: "واعلم أن الصبر أيضًا ينقسم باعتبار حكمه إلى فرض ومستحبٍّ
ومكروه ومحرَّم؛ فالصبر عن المحظورات فرض، والصبر على المكاره مستحب،
والصبر على الأذى المحظور محظور، كمن يُقصد حريمه بشهوة محظورة، فتهيج
غيرتُه، فيصبر عن إظهار الغيرة ويسكت عما يجري على أهله، فهذا الصبر
محرَّم" t;[color=#000080]الإحياء" 4/69].
فالصبر على أداء الصلوات المكتوبات، هذا صبرٌ واجب، لكن
الصبر على إسباغ الوضوء على المكاره حال برودة الماء أو حرارته مستحبٌّ،
وكذلك الصبر على مقابلة السيئة بمثلها، فالله - عز وجل - أجاز لمن عوقب
بسيئة أن يعاقِب بمثلها؛ لكن العفو - وسماه صبرًا - خيرٌ منه، فهذا صبر
مستحب؛ قال - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ
خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
خامسًا: للصبر ثمرات وفضائل:
لعِظَم أمر الصبر جعل اللهُ - تعالى - فيه ثمراتٍ
وفضائلَ كثيرةً، أسوق لك شيئًا منها، عشرًا من الكتاب، وعشرًا من السنة،
فإليك مما ورد من الكتاب أولاً:
1- أن الله - تعالى - جعل الإمامة في الدين
منوطةً بالصبر واليقين؛ قال - تعالى -: {وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
2- أن الله أخبر أن الخير في الصبر مؤكِّدًا
ذلك باليمين؛ قال - تعالى -: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
ومن أعظم الخير فيه أن أجْره لا يُقدَّر ولا يحدَّد؛ قال - سبحانه -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ} [الزمر: 10].
3- وأخبر الله - جل وعلا - أنه يحب الصابرين؛
قال - تعالى -: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}
[آل عمران: 146].
4- وأخبر أنه معهم، فبالصبر ينال العبدُ
معيَّةَ الله تعالى؛ قال تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
5- وعلَّق الله - تعالى - الفلاح على الصبر
والتقوى؛ فقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
6- وأعطى الصابرين عند
المصيبة ثلاثَ بشائرَ، كلُّ واحدة منها عظيمة بذاتها؛ فقال - تعالى -: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ *
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}
[البقرة: 155 - 157].
7- وأخبر أنه بالصبر والتقوى
معهما لا يضر كيدُ العدو وتسليطه؛ فقال - تعالى -: {وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
8- وأخبر أن الفوز بالجنة،
والنجاة من النار إنما تنال بالصبر؛ فقال - تعالى -: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ
هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111].
9- وأن تدبُّر آياته والانتفاع بها خصَّ به
أهل الصبر والشكر؛ فقال - تعالى -: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].
10- وأخبر أن الصبر من أعالي الأمور وأعظمها؛
فقال - تعالى -: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا
فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].
وقال حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ
الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ
عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:
17].
وهذا مما ورد من فضائل الصبر في القرآن، وهي كثيرة جدًّا، وتقدم قول شيخ
الإسلام - رحمه الله - بورود الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعًا،
وامتدح الله - تعالى - الصبر في كثير من المواطن.
يتبع